أوراق الورد "باكثير" يحكي لنا عن هزيمة التتار

مكنون

عفا الله عنه وجميع المؤمنين
طاقم الإدارة
عبد الحكيم الزبيدي

كتبها "علي أحمد باكثير" سنة 1945م، وهي تتعرض لفترة مهمة من تاريخ العالم الإسلامي؛ حيث واجه خلالها هجمة شرسة من التتار القادمين من جهة الشرق والصليبين القادمين من جهة الغرب، كانت تلك هي رواية "واإسلاماه" التي يمكن عبر سطورها أن نتلمس عوامل الهزيمة وعوامل النصر كما عرض لها المؤلف.

تفرق.. تنهزم

عرض باكثير من خلال الرواية للوضع السائد في العالم الإسلامي في تلك الحقبة، فإذا هي الفُرقة بين الدويلات الإسلامية، وانشغال كل ملك بما تحت يده؛ فلا يعين أحدهم الآخر على الأعداء. فها هو السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه يدهمه التتار بجيوشهم الجرارة؛ فلا يستطيع صدهم، فيرسل رسله إلى مركز الخلافة الإسلامية وأمراء المسلمين في الشرق يستمدهم العون المادي ليستعين به على صد التتار "فلديهم من الغنى الفاحش وفي بلادهم من مصادر الثروة الواسعة ما يكفل له القدرة على مواجهة عدو المسلمين جميعًا إذا أمدوه بنزر مما يملكون"(1). فلا يلقى لذلك أي صدى، بل إن بعضهم "أغلظ له في الرد، وكان من جوابه له أنه ليس من الغفلة والجهل بحيث يساعد جلال الدين على عدوه؛ ليخلو له الجو بعد ذلك فيغير على بلاده؛ فلا فرق بينه وبين التتار المتوحشين!"(2).

وهاهم ملوك المسلمين وأمراؤهم في الشام يسالمون الصليبين، ويبيعونهم السلاح الذي يقتلون به المسلمين، كما فعل الصالح إسماعيل أمير دمشق. وهاهم المماليك في مصر يكيد بعضهم لبعض في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم. بينما هم مستسلمون أمام العدو الخارجي؛ فحين أرسل زعيم التتار للسلطان قطز -بطل الرواية وقاهر التتار- يهدده ويتوعده ويدعوه للتسليم وعدم المقاومة "استشار السلطان الأمراء فيما يجب أن يجيب التتار به، فأشار معظمهم أن يكتب إلى هولاكو جواباً لطيفاً يتقون به شره، ويخطبون به وده، ويتفقون معه على مال يؤدونه جزية إليه كل سنة؛ لئلا يهجم على بلادهم، فيهلك الحرث والنسل، وقالوا: إنه لا فائدة من مقاومة التتار، وإن اللين معهم أنفع من الشدة"(3).

النصر.. لم يكن "قطز" وحده

ولم يحصر باكثير -كما أرى- أسباب النصر في شخصية قطز وحده، وإن كانت هي الشخصية الأهم، وإنما جعلها باكثير -كما ظهر لي من الرواية- عدة عوامل تتضافر معاً.

فالقائد الصالح يمثله في الرواية سيف الدين قطز، الذي "يضرب بعدله ونزاهته المثل"، كما يقول عنه باكثير في المقدمة. وهذا القائد تمثلت فيه عدة صفات أهّلته لهذا الدور الخطير الذي اضطلع به، من هذه الصفات نبل الأصل والشجاعة والفروسية والتربية الخشنة؛ فقد نشأ قطز عبداً مملوكاً ينتقل من سيد إلى آخر، فخبر آلام الشعب، وعايش مشكلاته، وخبر صروف الدهر وتقلبات الأيام، وكانت هناك الصفات الجسمانية والشخصية التي أهّلته، وأعانته على هذه القيادة، وكذلك فقد نشأ قطز نشأة دينية؛ إذ تعرف على الشيخ ابن عبد السلام في دمشق، وأخذ يختلف إليه خلال فرض الإقامة الجبرية على الشيخ في منزله.

أما العالم الصالح فيمثله في الرواية الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ ذلك العالم الذي لا يخشى في الله لومة لائم، "ويجهر بآرائه المخالفة للسلطان حتى فرض عليه الصالح إسماعيل الإقامة الجبرية في بيته، ثم انتقل إلى مصر لمساندة الملك الصالح أيوب الذي كان لا يمالئ الصليبين بل يحاربهم ويجاهدهم، وقد ولاه الصالح أيوب القضاء، ولكنه عزل نفسه منه حين رأى من الصالح عدم الإنصاف، وحين تولى قطز الإمارة أخذ يستفتي الشيخ ابن عبد السلام، ويعمل بفتياه، "فاستفتى الملك المظفر العلماء في جواز فرض الأموال على العامة لإنفاقها في العساكر، فتهيب العلماء في الإفتاء، وخافوا إن هم أفتوا بالجواز أن يغضبوا العامة عليهم، وإن أفتوا بالمنع أن يغضب السلطان، فظلوا يتدافعون الإفتاء حتى صدع ابن عبد السلام بفتياه العظيمة، فسكت سائر العلماء، وانفض المجلس على ذلك"(4). وكانت هذه الفتيا تقول: إنه لا يجوز فرض الأموال على العامة حتى يرد الأمراء ما لديهم من كنوز إلى بيت المال، فإن لم تفِ بالحاجة جاز فرض الأموال على العامة لإنفاقها على الاستعداد للجهاد. وقد سعد قطز بهذه الفتيا التي تدل على الشجاعة وسعة العلم.

ثالث هذه العوامل هو الغني الصالح الذي ينفق ماله فيما شرعه الله من الإحسان والبر وتجهيز المجاهدين، ويمثله في الرواية ابن الزعيم "والسيد ابن الزعيم مثل صالح للغني الشاكر نعمة الله عليه، لم ينس حق الله في ماله؛ فكان ينفق منه على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة من الأرامل واليتامى، وكان يرى أن لدينه ووطنه حقوقاً عليه، لا تبرأ ذمته حتى يؤديها، وكم من غني في دمشق لا هم لهم إلا ملء بطونهم وإشباع شهواتهم"(5).

وعرض باكثير دورًا إيجابيًّا للمرأة في الجهاد تمثله "جلنار"؛ فهي ابنة خال قطز، نشآ معاً، وتعرضا للتشرد معاً، وجربا حياة العبودية معاً، وتفرقا في دمشق، ثم التقيا في مصر، وأصبحا زوجين. وكانت جلنار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها وتؤازره وهو يعد العدة لملاقاة التتار، ولا يقتصر دورها في الرواية على هذا.. بل إنها قد شاركت في الجهاد بالسيف عندما تطلّب منها الأمر ذلك، حين انكشف المسلمون عن القائد، ورأت فارساً تترياً يكاد يغدر بالقائد، ولهذا نرى باكثير يؤكد من بداية الرواية على اهتمام السلطان جلال الدين بتدريب ابنته (جلنار) على ركوب الخيل وفنون القتال تحسباً لمثل هذا اليوم.

كأنهم خلق آخر

ولا شك أن استفراغ الجهد في الإعداد لملاقاة العدو من أهم أسباب النصر، وهكذا نجد الملك المظفر قطز يستغرق 10 أشهر في إعداد العدة، وتجهيز الجيش لملاقاة العدو، وجاء من ضمن هذا الإعداد التصدي لحملات التهويل التي يبثها العدو لزرع الرعب في قلوب المسلمين، وشحذ همم الناس عن طريق العلماء والخطباء في المساجد، وتذكيرهم بما أعد الله للمجاهدين الصابرين من أجر عظيم؛ حتى قويت عزيمتهم، وارتفعت معنوياتهم، "فخالط الناس شعور عظيم لم يعهدوا له مثيلاً من قبل، وأحسوا كأنهم خلق آخر غير ما كانوا، وأنهم يعيشون في عصر غير عصرهم"(5).

وجاءت الشورى كمبدأ أساسي يقوم عليه نظام الحكم في الإسلام، طبقها قطز ليصلح جهاده ضد التتار قبل لقائهم، أما حين يشتد البأس ويحمى الوطيس فهنا لا بد من الصبر والمجالدة، وفي هذا الموقف يضرب القائد المثل لجنده بأن يكون هو أشدهم بأساً وقتالاً، وهكذا كان السلطان قطز؛ فحين يرى أن كفة العدو قد بدأت ترجح يكر بنفسه ليقوي من عزيمة المقاتلين، على أنه لم يكن يلقي نفسه في المهالك.. بل لقد "كان في كل ذلك حذراً كأنما ينظر بألف عين، لا تفوته أقل حركة يقوم بها العدو، ولا أي تضعضع يبدو من قبل أصحابه"(6)، وهو في ذلك صادق اللجوء إلى الله عز وجل، كثير الذكر لله خلال الاستعداد لبدء المعركة.

لغة "باكثير".. السهل الممتنع

تمتاز الرواية -كسائر أعمال باكثير- بسمو اللغة وعذوبتها؛ فباكثيرشاعرمبدع كما هو ناثر مبدع. وتتمثل براعته اللغوية -في رأيي- في استخدامه للغة الفصحى السهلة الممتنعة. مع تطعيمها ببعض المفردات الرصينة التي تدل على عمق تمكن باكثير من ناصية اللغة، كما تسمو بذوق القارئ، وتثري مخزونه اللغوي.

كما تبدو ثقافة الكاتب الدينية واضحة من خلال الرواية في مجملها؛ إذ إنها تدور حول محور الجهاد في سبيل الله بما يشمله من جهاد بالنفس وجهاد بالمال والإعداد لذلك إلى آخر تلك المعاني، وكذلك من خلال تضمينه لكثير من الآيات الكريمة في مواضعها المناسبة؛ مما يدل على استيعابه لكتاب الله عز وجل، وتمثله له حتى امتلأت به نفسه، فسال على قلمه.

وكذلك تبدو ثقافته الفقهية في قوله عن قطز وجلنار حين ذكر أن سيدهما غانم المقدسي قد أوصى بإعتاقهما عند وفاته، وعلق على ذلك بقوله: "كما دبّر لهما مولاهما الفقيد"(7) و"التدبير" في الفقه هو أن يوصي السيد بأن يعتق العبد عند وفاة السيد.

لقد كتب باكثير هذه الرواية قبل قيام الكيان الصهيوني بثلاثة أعوام، ولكنه كان يرى ما عليه الأمة من الضعف والهوان وممالأة العدو والاستسلام له، فكتب هذه الرواية الرائعة يستنهض بها همم المسلمين، ويضرب لهم أروع الأمثلة من تاريخهم الحافل بالبطولات. ولم يختر باكثير فترة من فترات عهد النبوة أو الخلافة الراشدة، وإنما اختار عهداً تفرقت فيه الأمة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة، وخارت فيه الهمم، وكثر فيه المثبطون الداعون إلى الاستسلام.

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

[1] - وا إسلاماه، ص (66)
[2] - وا إسلاماه، ص (66)
[3] - علي أحمد باكثير: وا إسلاماه، دار الكتاب اللباني –بيروت، دون تاريخ، ص (232)
[4] - وا إسلاماه، ص(222)
[5] - وا إسلاماه، ص (124)
[6] - وا إسلاماه، ص(253)
[7] - وا إسلاماه، ص (108)
 
عودة
أعلى