اسمي (غريب) ، وأبو أسماء يقول لي أنت من (مستغرب) ومعنى ( مستغرب ) : أي غربي الهوى .
وأبو أسماء صديق عزيز ، كان شاعراً أو هاوياً للشّعر ، وكنت مثله ، ( والطيور على أشكالها تقع ) . تعرّفت عليه أيام دراسة اللغة الإنجليزيّة . كم كان يطرب عندما أُسمعه بعض الشعر الجميل المنتقى ، وكنت أطرب مثله ، بيد أنّه كان يزداد مع الأيام استقامة ، وأزداد غربة وغواية .
كم دعاني للمركز الإسلامي . كانت في كلماته حسرة :
- أنت غريب يا غريب ؛ ما يضيرك لو زرت المركز للصلاة فيه والتعرّف على الشباب المستقيم والمشاركة في أنشطة الدعوة ؟ وكنت أعده وأقول :
- قريباً إن شاء الله ، قريباً إن شاء الله . والحقيقة لم يكن يمنعني إلاّ الشيطان وهواي الغربي .
- يا أبا أسماء ، قلت له مرّة : أنا من عائلة متديّنة ، ربّاني أهلي على حب الإسلام وسأعود ، سأعود يوماً إن شاء ألله إلى الإسلام ، وسأصحبك إلى المركز الإسلامي كثيراً حتى تمل من صحبتي . كنت أملأ قلبه فرحة ً بموعدي هذا ، لعله يلمح فيه شعاع الأمل ، والفجر الصادق ، فيرفع يديه إلى السماء متبسّماً ويتمتم : اللهم آمين .
عدا أبا أسماء ، كنت غارقاً في بحيرة أصدقاء سوء . كم أشفق عليهم من كلمة ( أصدقاء السوء) ، لأنهم مثلي يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى نور الهداية .. .
زارني أبو أسماء مرّة في منزلي ، فوجد هم معي ، . . قلت في نفسي ، أفي هذه الساعة ؟ اللهم استر . . . شعرت أنّهم سيسخرون منه ، فزوّغت في نفسي كلاماً عازماً على المدافعة .
- جاءكم المطاوعة ، قال (أحمد ) ساخراً قبل أن يدخل أبو أسماء .
-كف عن السخرية ، أجبته ، هؤلاء نجوم السماء ، ليتنا مثلهم .
-كن مثلهم وحدك ، احرم نفسك من الحياة .
-المهم الآن لا تفضحونا معه ، لنغلق التلفاز ، ومن لا يريد الجلوس معنا... فليدخل .
ولج أبو أسماء قبل أن يتحرّك منا أحد ، سلّم ، رحّبت به وحدي ، تمصمص سالم ، ثم جلس أبو أسماء وقال :
- سيقوم المركز الإسلامي غداً برحلة ترفيهيّة ، كم أتمنّى منكم المشاركة .
-وكيف ستكون رحلتكم ؟ سأله سالم ، محاولاً التخلص من امتعاضه .
-سيكون فيها اللعب والمرح ، والمسابقات والدروس ، ستعجبكم جدّاً ، إن شاء الله .
قلت في نفسي : ركّز أبو أسماء على الترفيه لجذبنا ، وإلاّ فهم لا يعرفون المرح .
غير أن أبا أسماء لم يعد من زيارتنا خائباً بل خرج معه في الرحلة (عثمان ) .
كان (عثمان) خيراً منّا ، يذهب إلى المركز أحيانا ، لكنّه كان يسكن معنا . وكنت أشعر بالارتياح إذا انفردت بالحديث معه .
عاد عثمان من الرحلة فرحاً منشرحاً جذلان، وأخذ يحدّثنا عنها بحماس :
-كانت بعيدة بعيدة ، في منطقة جميلة جميلة ، مليئة بأشجار الصنوبر ، ويجري من تحتها نهر صغير ، وتحيط بها الجبال الشاهقة ، منطفة أعدت للرحلات ، حتى عصافيرها كانت كأنها تستقبلنا بزقزقتها وتراقصها . و كان في برنامج الرحلة وقت كاف
للترفيه واللعب ، وكان فيها دروس ومحاضرات ، تكلّموا كثيراً عن مشاكل المسلمين ، غير أنّى لم أعرها اهتماماً ، ليس ذلك من اختصاصي .
-إذاً أنت ذهبت للعب فقط ؟ قاطعه أحمد .
-لا ، بل استفدت من محاضرة عذبة عن القرآن .
-القرآن عظيم لا يشبهه كتاب ، قلتُ نابزاً (نيلسون ) ، الذي كان يحضر سمرتنا ، ثم أردفت : هو الكتاب الوحيد الباقي على هيئته كما أنزله الله غضّا طريّا .
فطن نيلسون لكلامي ، فقال :
-لكنّه كتاب مثالي ، لا يمكن تطبيقه .
-بلى ، لقد طبّقه خير القرون ، فصاروا سادة للعالم ، ومنارات هدى ، يوم كان أجدادك قابعين في ظلمات الجهل . ألم تضيء الأندلس به ثمانية قرون .
-دوماً تفاخرون بالماضي . . . طبقوه إن استطعتم . . . إنّه لا فرق بيننا وبينكم .
كانت كلماته الأخيرة صفعة على وجوهنا ، ألجمتنا ، وتحيّر الجواب.
* * * * * *
وبعد أيام اتصل بي أحد الأصدقاء الذين حضروا تلك الجلسة وقال :
-إن (سوزان) طلبت مني نسخة من القرآن .
-كيف ذاك ؟
-إنها أعجبت بتحمسك ودفاعك عن القرآن .
-سأتصل بأبي أسماء ليحضر لك ، بل لها النسخة .
-لقد كفيتك مؤونة ذلك ، أحضرتها بنفسي ، وإنما اتصلت بك لأبشرك .
أفرحني ذلك الخبر أيما فرح ، كدت أطير ، لكن بعد لحظات نسيت الحدث وعدت إلى حياة الغواية .
وبعد مدّة اتصل بي نفس الصديق وقال :
- إن فلانة التي أخذت القرآن أسلمت وسافرت بعيداً لتنسى جلسات المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون .
-كم هي عظيمة – قلت له – ألم تحاول أن تقنعها بالزواج منك ؟
-بلى ، أزعجتها باتصالاتي ، ولهذا هجرتني وهربت منّي بعيداً إلى مكان لا أعلمه .
كم عظيمة أننتِ يا سوزان ، كررتُ في نفسي بعدما أغلقت الهاتف . . عزيزٌ في هذا المجتمع مثلكِ .
* * * * * *
قُرِعَ بابنا بقوّة . . رجل يصرخ :
-أنتم لا تحبّوننا لأننا مكسيكان . .
فنحت الباب لأنظر ، فإذا برجل ثمل ، يخرج من عينيه الشرار . . . حاول أن يمسك بي . . دفعته بقوّة . . سقط على الأرض خارج شقتنا . . . أغلقت الباب بقوة . . حمدت الله أني لم أصب بسوء . . ابتعد عن شقتنا وهو يهدد ويتوعد . . سمعت صوتاً آخر يجيبه . . . .
-ابتعد من هنا .. . سأقتلك . . سأطلق النار . . . ثم . . . ثلاث طلقات . .. ... . ثمّ صمت كل شيء.
وبعد ساعة امتلأ سكننا بالشرطة وكامرات التلفاز والصحافة ، وإذا بالرجل الذي دفعته مسجّىً على الأرض ، مضرجاً في دمائه أمام شقّة جيراننا ، قد لفظ أنفاسه .
كم قرأت مثل هذا في الصحافة ، وشاهدته في الأفلام ، لكن أمام بيتنا وبمسمع مني ومرأى كان لأول مرّة . فعدت أقول :
-ما أشد شقوة هذا المجتمع الزائف حضارة ، المغرور بقشوره ؟
* * * * * *
كنت أتناول طعام الإفطار في مطعم الجامعة ، ورائحة الهمبرجر ، والكاتشب تفوح صاخبة ، لمّا رأيت أبا أسماء يتنقّل بين مجموعات الطلبة العرب ، وبصحبته شاب كث اللحية ، جميل المحيّا ، حسن الطلعة . وكنت إذا جلست في هذا المطعم أتحاشى الجلوس مع الأمريكان ، وأفرح إن جالسني أبو أسماء وأمثاله من النجوم . كان أبو أسماء إذا رآني أتحدث مع الفتيات يشتد غضبه ، ويقول :
- ائتِ بها زوجة (يمانيّة كالحكمة) .
أخذا يقتربان مني ، وصلاني . . . جلسا معي ، وقدمني أبو أسماء لصاحبه قائلاً :
-غريب صديقي .
-ما شاء الله – قال لي صاحبه ، إن الذي سمّاك غريباً ليحبّك ، طوبى للغرباء ، أمّا أنا فاسمي خالد .
حدّثاني للحظات بأعذب الكلمات ، وودّعاني بقولهما :
- سيكون لنا في المسجد درس بعد الغرب ، نتمنّى حضورك .
- سآتي إن شاء الله .
شعرت أنّي وعدتهما ، ترددت قليلاً قبل المغرب ، ولكنّى في هذه المرّة طردت الشيطان عن رأسي وأتيت ، نعم أتيت للنور .
دخلت المركز دخول المغترب العائد إلى حضن أمّه . استقبلني أبو أسماء ، ضمني إلى صدره بحرارة ، لم تصدّق عيناه ما رأى ، فتبسّمت وقلت :
-هاأنذا أنجزك ما وعدت . فضحك وقال :
-مرحباً بك ، أنا وأنت وكل المسلمين في هذا المركز سواء .
كان المركز روضة ملوّنة بجميع أطياف الجنسيات المسلمة ؛ العربي والهندي والصيني والماليزي والأندونيسي والأمريكي . هذا لون بشرته سمراء ، وهذا حمراء ، وذاك شعره أشقر ، وذاك عيناه زرقاوان ، الكل كان يبدأ تقديم نفسه لي بقوله : أخوك. . .
توضأت ، وصلّيت معهم المغرب ، شعرت بحرارة التصاق الأخ إلى أخيه ، المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ، ثم جلسوا متحلّقين حلقة كبيرة ، وقام أحدهم يتحدّث ، فكان حديثه عجباً .
كان يتقاطر من فمه لؤلؤة لؤلؤة ، ويتماوج كأبيات الشعر ، ويهدر كأمواج البحر ، ويطير بالقلوب .
حدثنا عن القرآن كيف فعل بأولئك الأعراب الذين أنهكتهم الحروب ، ونسيهم التاريخ ، كيف جعل منهم سادة للعالم ، ومعلمين للبشرية ، وهداة .
وجدت في حديثه أنفاسي يوم كنت أدافع عن الإسلام بين أصحابي بحرارة، كنت أنفعل مثل انفعاله ، بيد أنّى لم أكن أخرج مثل لآلئه ودرره . قال لنا :
- من للدّين إن لم نحمله نحن ذويه ، من للدين ؟ إننا أتينا للغرب نستجديهم علماً ، فصاروا ينظرون إلينا كالخراف ، وكان أجدادنا يأتون إليهم بمشاعل الهداية والنور ، فيركع لهم أجداد هؤلاء " ، "نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله " .
وحين انتهى من حديثه طلب منّي خالد البقاء معهم وصحبتهم لأيام، فقلت :
-لو كنت أجيد مثل هذا الحديث لبقيت معكم .
-ابق معنا وستجيد خيراً من هذا الحديث .
ترددتّ فألحّوا ، فصحبتهم حياءً ، وأحمد الله أنّي صحبتهم ، وأحمد الله أنهم ألحّوا .
كانوا شباباً في مثل سني ، يدرسون في الجامعات مثلي ، لا تخلوا أوقاتهم من المرح ، والمزاح الرائع ، وإن كان يغلب عليهم سمت الجد ، ولهذا انشرح لهم صدري ، وكان معنا بعض أصدقاء أبي أسماء الأخيار ، أما هو فاعتذر فلم يلحّوا عليه .
كانت معاملتهم لي كالضّيف ؛ هذا يقدّم لي الطعام ، وهذا يوقظني بأدب للصلاة ، وهذا يحدّثني ويمازحني ويؤنسني . . . . . أحببتهم ، أحببتهم من كل قلبي ، وأحببت صحبتهم ، وشعرت أنهم يبادلونني الحب ، بل شعرت أنهم إخوتي حقّاً .
وفي ليلة الوداع هجرني النوم ، وبتّ أتقلب في فراشي حزناً على فراق هذه النجوم ، فرأيت تلك الليلة عجباً .
رأيتهم يقضون ليلهم ركّعاً وسجّدًا ، ورأيتهم يقفون يدعون الله طويلاً ، فحمدت الله أن كان في الدنيا من يحمل هذا الدين العظيم منهج حياة ، وتخيّلت حواري مع نيلسون ، ورأيتني أصرخ في وجهه ، أقذفُه بدعواه :
- لا ، ليس القرآن مثاليّاً ، ولا صعب الامتثال .
عدت من شرودي ، فقمت فتوضأت وصليت مثلهم . يا ألله ، ما أعظمها من صلاة .
وحين صلينا الفجر ، قرأ الأمام : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ) فبكيت ، بكيت من كل قلبي ، وغلبني شهيقي ، فاستحييت وكتمته .
لم يحدّثي أحد منهم ذلك الصباح ، بل تركوني أعيش وحدي سعادتي العجيبة وهنائي الدافيء ، أعيش وحدي لذة الهداية ونشوة العودة في أسمى معانيها .
ولمّا حانت ساعة الفراق جعل كل واحد منهم يلتزمني ويضمني إلى حضنه . . . لم أتمالك نفسي ، فانفجرت باكياً . . . بكيت في حضن كل واحد منهم لتلك السعادة التي لم تفارقني منذ صلاة الفجر ، وألْجمتني عبراتي عن كلمات الوداع .
* * * * * *
عدت إلى أصحابي ، حيث جلسات الغواية ، ولكنّي عدت بوجه جديد ، وقلب جديد ، وروح جديدة ، عدت وكلّى أمل أن أدعوهم إلى السعادة التي وجدتها ، والهناء الذي أعيشه ، وأحملهم على اعتناق النور الذي أعتنقه .
-أين كنت – قالوا بعد ردّ السلام - سافرت مع ( المطاوعة ) ؟
-جئتكم من عند خير الناس .
-هاه ، . . مطوّع جديد ، قال سالم ساخراً.
-هل لكم بمثل تجربتي ، كم هي عظيمة الاستقامة .
-أنت ؟. . . أنت قائدنا إلى الغواية .، صرخ نيلسون .
-(وميري) ، قال سالم : الآن ستتصل ميري ، ماذا ستقول لها . .
-سيقول لها أصبح ( مطوع ) ، وضحكوا .
أخذت الضحكات والنبزات والسخرية تعلو وتزداد ، وجعلت أدافع عن نفسي وأدعوهم إلى الجنّة ويدعونني إلى النار .
-يا شباب ، يا إخوة ، صرخت فيهم فسكتوا : أنسيتم أنكم من بلاد الإسلام ، ولدتم مسلمين ، أنسيتم أن أجدادكم هم هداة العالم ، ومصابيح الدّجى ، ومنارات الهداية ، أم غرتكم ضحكات نيلسون بينكم ، أسأل الله أن يهديه كما هدى (سوزان) .
-نحن في أمريكا ، جئنا نستمتع بالحياة ، قال سالم .
-عش وحدك مع المحرومين يا . . . قال أحمد .
-لا ، لا . . لن ندعك تذهب معهم ، قال سالم . ستأتيك (ميري) تنتزعك من بين أيديهم ، من المركز .
كنت أصرخ وأدافع ، وكان صوت التلفاز عالياً . . . ثم . . . وجدت نفسي ممدّداً على السرير الأبيض في المستشفى ، وليس حولي إلاّ أطبّاء وممرّضون ، وكل شيء أبيض .
-أين أنا ؟ ما الذي أتى بي إلى هنا ؟
-لا تخف ، هذا الدكتور جونسن من أكبر أطبّاء المستشفى .
* * * * * *
كان خالد وأصحابه قد ابتعدوا مئات الأميال ، ووصلوا إلى مطار (أوكلاهوما) قافلين لدراستهم حينما اتصلوا بالمركز الإسلامي يسألوا عنّى :
-(غريب ) في المستشفى ، قال لهم الذي رفع سمّاعة الهاتف .
-سلامات ؟ خيراً إن شاء الله ؟
-الحمد لله بخير ، لم يأتنا أحد بتفاصيل خبره.
أقلق خالداً الخبر ، فكان هو وأصحابه أول الزائرين . ثم تقاطر عليّ أفواج الأحبّة .
وحينما خرجت من المستشفى كان قد فات شهر من الجامعة ، فسافرت إلى أهلي وأتيت بها ، أجل أتيت بها زوجة ( يمانيّة كالحكمة ) . . وأسكنتها جارة للأخيار ، شموس النهار ، ومصابيح الدجى ، وهداة الدنيا .
وأبو أسماء صديق عزيز ، كان شاعراً أو هاوياً للشّعر ، وكنت مثله ، ( والطيور على أشكالها تقع ) . تعرّفت عليه أيام دراسة اللغة الإنجليزيّة . كم كان يطرب عندما أُسمعه بعض الشعر الجميل المنتقى ، وكنت أطرب مثله ، بيد أنّه كان يزداد مع الأيام استقامة ، وأزداد غربة وغواية .
كم دعاني للمركز الإسلامي . كانت في كلماته حسرة :
- أنت غريب يا غريب ؛ ما يضيرك لو زرت المركز للصلاة فيه والتعرّف على الشباب المستقيم والمشاركة في أنشطة الدعوة ؟ وكنت أعده وأقول :
- قريباً إن شاء الله ، قريباً إن شاء الله . والحقيقة لم يكن يمنعني إلاّ الشيطان وهواي الغربي .
- يا أبا أسماء ، قلت له مرّة : أنا من عائلة متديّنة ، ربّاني أهلي على حب الإسلام وسأعود ، سأعود يوماً إن شاء ألله إلى الإسلام ، وسأصحبك إلى المركز الإسلامي كثيراً حتى تمل من صحبتي . كنت أملأ قلبه فرحة ً بموعدي هذا ، لعله يلمح فيه شعاع الأمل ، والفجر الصادق ، فيرفع يديه إلى السماء متبسّماً ويتمتم : اللهم آمين .
عدا أبا أسماء ، كنت غارقاً في بحيرة أصدقاء سوء . كم أشفق عليهم من كلمة ( أصدقاء السوء) ، لأنهم مثلي يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى نور الهداية .. .
زارني أبو أسماء مرّة في منزلي ، فوجد هم معي ، . . قلت في نفسي ، أفي هذه الساعة ؟ اللهم استر . . . شعرت أنّهم سيسخرون منه ، فزوّغت في نفسي كلاماً عازماً على المدافعة .
- جاءكم المطاوعة ، قال (أحمد ) ساخراً قبل أن يدخل أبو أسماء .
-كف عن السخرية ، أجبته ، هؤلاء نجوم السماء ، ليتنا مثلهم .
-كن مثلهم وحدك ، احرم نفسك من الحياة .
-المهم الآن لا تفضحونا معه ، لنغلق التلفاز ، ومن لا يريد الجلوس معنا... فليدخل .
ولج أبو أسماء قبل أن يتحرّك منا أحد ، سلّم ، رحّبت به وحدي ، تمصمص سالم ، ثم جلس أبو أسماء وقال :
- سيقوم المركز الإسلامي غداً برحلة ترفيهيّة ، كم أتمنّى منكم المشاركة .
-وكيف ستكون رحلتكم ؟ سأله سالم ، محاولاً التخلص من امتعاضه .
-سيكون فيها اللعب والمرح ، والمسابقات والدروس ، ستعجبكم جدّاً ، إن شاء الله .
قلت في نفسي : ركّز أبو أسماء على الترفيه لجذبنا ، وإلاّ فهم لا يعرفون المرح .
غير أن أبا أسماء لم يعد من زيارتنا خائباً بل خرج معه في الرحلة (عثمان ) .
كان (عثمان) خيراً منّا ، يذهب إلى المركز أحيانا ، لكنّه كان يسكن معنا . وكنت أشعر بالارتياح إذا انفردت بالحديث معه .
عاد عثمان من الرحلة فرحاً منشرحاً جذلان، وأخذ يحدّثنا عنها بحماس :
-كانت بعيدة بعيدة ، في منطقة جميلة جميلة ، مليئة بأشجار الصنوبر ، ويجري من تحتها نهر صغير ، وتحيط بها الجبال الشاهقة ، منطفة أعدت للرحلات ، حتى عصافيرها كانت كأنها تستقبلنا بزقزقتها وتراقصها . و كان في برنامج الرحلة وقت كاف
للترفيه واللعب ، وكان فيها دروس ومحاضرات ، تكلّموا كثيراً عن مشاكل المسلمين ، غير أنّى لم أعرها اهتماماً ، ليس ذلك من اختصاصي .
-إذاً أنت ذهبت للعب فقط ؟ قاطعه أحمد .
-لا ، بل استفدت من محاضرة عذبة عن القرآن .
-القرآن عظيم لا يشبهه كتاب ، قلتُ نابزاً (نيلسون ) ، الذي كان يحضر سمرتنا ، ثم أردفت : هو الكتاب الوحيد الباقي على هيئته كما أنزله الله غضّا طريّا .
فطن نيلسون لكلامي ، فقال :
-لكنّه كتاب مثالي ، لا يمكن تطبيقه .
-بلى ، لقد طبّقه خير القرون ، فصاروا سادة للعالم ، ومنارات هدى ، يوم كان أجدادك قابعين في ظلمات الجهل . ألم تضيء الأندلس به ثمانية قرون .
-دوماً تفاخرون بالماضي . . . طبقوه إن استطعتم . . . إنّه لا فرق بيننا وبينكم .
كانت كلماته الأخيرة صفعة على وجوهنا ، ألجمتنا ، وتحيّر الجواب.
* * * * * *
وبعد أيام اتصل بي أحد الأصدقاء الذين حضروا تلك الجلسة وقال :
-إن (سوزان) طلبت مني نسخة من القرآن .
-كيف ذاك ؟
-إنها أعجبت بتحمسك ودفاعك عن القرآن .
-سأتصل بأبي أسماء ليحضر لك ، بل لها النسخة .
-لقد كفيتك مؤونة ذلك ، أحضرتها بنفسي ، وإنما اتصلت بك لأبشرك .
أفرحني ذلك الخبر أيما فرح ، كدت أطير ، لكن بعد لحظات نسيت الحدث وعدت إلى حياة الغواية .
وبعد مدّة اتصل بي نفس الصديق وقال :
- إن فلانة التي أخذت القرآن أسلمت وسافرت بعيداً لتنسى جلسات المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون .
-كم هي عظيمة – قلت له – ألم تحاول أن تقنعها بالزواج منك ؟
-بلى ، أزعجتها باتصالاتي ، ولهذا هجرتني وهربت منّي بعيداً إلى مكان لا أعلمه .
كم عظيمة أننتِ يا سوزان ، كررتُ في نفسي بعدما أغلقت الهاتف . . عزيزٌ في هذا المجتمع مثلكِ .
* * * * * *
قُرِعَ بابنا بقوّة . . رجل يصرخ :
-أنتم لا تحبّوننا لأننا مكسيكان . .
فنحت الباب لأنظر ، فإذا برجل ثمل ، يخرج من عينيه الشرار . . . حاول أن يمسك بي . . دفعته بقوّة . . سقط على الأرض خارج شقتنا . . . أغلقت الباب بقوة . . حمدت الله أني لم أصب بسوء . . ابتعد عن شقتنا وهو يهدد ويتوعد . . سمعت صوتاً آخر يجيبه . . . .
-ابتعد من هنا .. . سأقتلك . . سأطلق النار . . . ثم . . . ثلاث طلقات . .. ... . ثمّ صمت كل شيء.
وبعد ساعة امتلأ سكننا بالشرطة وكامرات التلفاز والصحافة ، وإذا بالرجل الذي دفعته مسجّىً على الأرض ، مضرجاً في دمائه أمام شقّة جيراننا ، قد لفظ أنفاسه .
كم قرأت مثل هذا في الصحافة ، وشاهدته في الأفلام ، لكن أمام بيتنا وبمسمع مني ومرأى كان لأول مرّة . فعدت أقول :
-ما أشد شقوة هذا المجتمع الزائف حضارة ، المغرور بقشوره ؟
* * * * * *
كنت أتناول طعام الإفطار في مطعم الجامعة ، ورائحة الهمبرجر ، والكاتشب تفوح صاخبة ، لمّا رأيت أبا أسماء يتنقّل بين مجموعات الطلبة العرب ، وبصحبته شاب كث اللحية ، جميل المحيّا ، حسن الطلعة . وكنت إذا جلست في هذا المطعم أتحاشى الجلوس مع الأمريكان ، وأفرح إن جالسني أبو أسماء وأمثاله من النجوم . كان أبو أسماء إذا رآني أتحدث مع الفتيات يشتد غضبه ، ويقول :
- ائتِ بها زوجة (يمانيّة كالحكمة) .
أخذا يقتربان مني ، وصلاني . . . جلسا معي ، وقدمني أبو أسماء لصاحبه قائلاً :
-غريب صديقي .
-ما شاء الله – قال لي صاحبه ، إن الذي سمّاك غريباً ليحبّك ، طوبى للغرباء ، أمّا أنا فاسمي خالد .
حدّثاني للحظات بأعذب الكلمات ، وودّعاني بقولهما :
- سيكون لنا في المسجد درس بعد الغرب ، نتمنّى حضورك .
- سآتي إن شاء الله .
شعرت أنّي وعدتهما ، ترددت قليلاً قبل المغرب ، ولكنّى في هذه المرّة طردت الشيطان عن رأسي وأتيت ، نعم أتيت للنور .
دخلت المركز دخول المغترب العائد إلى حضن أمّه . استقبلني أبو أسماء ، ضمني إلى صدره بحرارة ، لم تصدّق عيناه ما رأى ، فتبسّمت وقلت :
-هاأنذا أنجزك ما وعدت . فضحك وقال :
-مرحباً بك ، أنا وأنت وكل المسلمين في هذا المركز سواء .
كان المركز روضة ملوّنة بجميع أطياف الجنسيات المسلمة ؛ العربي والهندي والصيني والماليزي والأندونيسي والأمريكي . هذا لون بشرته سمراء ، وهذا حمراء ، وذاك شعره أشقر ، وذاك عيناه زرقاوان ، الكل كان يبدأ تقديم نفسه لي بقوله : أخوك. . .
توضأت ، وصلّيت معهم المغرب ، شعرت بحرارة التصاق الأخ إلى أخيه ، المنكب بالمنكب والقدم بالقدم ، ثم جلسوا متحلّقين حلقة كبيرة ، وقام أحدهم يتحدّث ، فكان حديثه عجباً .
كان يتقاطر من فمه لؤلؤة لؤلؤة ، ويتماوج كأبيات الشعر ، ويهدر كأمواج البحر ، ويطير بالقلوب .
حدثنا عن القرآن كيف فعل بأولئك الأعراب الذين أنهكتهم الحروب ، ونسيهم التاريخ ، كيف جعل منهم سادة للعالم ، ومعلمين للبشرية ، وهداة .
وجدت في حديثه أنفاسي يوم كنت أدافع عن الإسلام بين أصحابي بحرارة، كنت أنفعل مثل انفعاله ، بيد أنّى لم أكن أخرج مثل لآلئه ودرره . قال لنا :
- من للدّين إن لم نحمله نحن ذويه ، من للدين ؟ إننا أتينا للغرب نستجديهم علماً ، فصاروا ينظرون إلينا كالخراف ، وكان أجدادنا يأتون إليهم بمشاعل الهداية والنور ، فيركع لهم أجداد هؤلاء " ، "نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله " .
وحين انتهى من حديثه طلب منّي خالد البقاء معهم وصحبتهم لأيام، فقلت :
-لو كنت أجيد مثل هذا الحديث لبقيت معكم .
-ابق معنا وستجيد خيراً من هذا الحديث .
ترددتّ فألحّوا ، فصحبتهم حياءً ، وأحمد الله أنّي صحبتهم ، وأحمد الله أنهم ألحّوا .
كانوا شباباً في مثل سني ، يدرسون في الجامعات مثلي ، لا تخلوا أوقاتهم من المرح ، والمزاح الرائع ، وإن كان يغلب عليهم سمت الجد ، ولهذا انشرح لهم صدري ، وكان معنا بعض أصدقاء أبي أسماء الأخيار ، أما هو فاعتذر فلم يلحّوا عليه .
كانت معاملتهم لي كالضّيف ؛ هذا يقدّم لي الطعام ، وهذا يوقظني بأدب للصلاة ، وهذا يحدّثني ويمازحني ويؤنسني . . . . . أحببتهم ، أحببتهم من كل قلبي ، وأحببت صحبتهم ، وشعرت أنهم يبادلونني الحب ، بل شعرت أنهم إخوتي حقّاً .
وفي ليلة الوداع هجرني النوم ، وبتّ أتقلب في فراشي حزناً على فراق هذه النجوم ، فرأيت تلك الليلة عجباً .
رأيتهم يقضون ليلهم ركّعاً وسجّدًا ، ورأيتهم يقفون يدعون الله طويلاً ، فحمدت الله أن كان في الدنيا من يحمل هذا الدين العظيم منهج حياة ، وتخيّلت حواري مع نيلسون ، ورأيتني أصرخ في وجهه ، أقذفُه بدعواه :
- لا ، ليس القرآن مثاليّاً ، ولا صعب الامتثال .
عدت من شرودي ، فقمت فتوضأت وصليت مثلهم . يا ألله ، ما أعظمها من صلاة .
وحين صلينا الفجر ، قرأ الأمام : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ) فبكيت ، بكيت من كل قلبي ، وغلبني شهيقي ، فاستحييت وكتمته .
لم يحدّثي أحد منهم ذلك الصباح ، بل تركوني أعيش وحدي سعادتي العجيبة وهنائي الدافيء ، أعيش وحدي لذة الهداية ونشوة العودة في أسمى معانيها .
ولمّا حانت ساعة الفراق جعل كل واحد منهم يلتزمني ويضمني إلى حضنه . . . لم أتمالك نفسي ، فانفجرت باكياً . . . بكيت في حضن كل واحد منهم لتلك السعادة التي لم تفارقني منذ صلاة الفجر ، وألْجمتني عبراتي عن كلمات الوداع .
* * * * * *
عدت إلى أصحابي ، حيث جلسات الغواية ، ولكنّي عدت بوجه جديد ، وقلب جديد ، وروح جديدة ، عدت وكلّى أمل أن أدعوهم إلى السعادة التي وجدتها ، والهناء الذي أعيشه ، وأحملهم على اعتناق النور الذي أعتنقه .
-أين كنت – قالوا بعد ردّ السلام - سافرت مع ( المطاوعة ) ؟
-جئتكم من عند خير الناس .
-هاه ، . . مطوّع جديد ، قال سالم ساخراً.
-هل لكم بمثل تجربتي ، كم هي عظيمة الاستقامة .
-أنت ؟. . . أنت قائدنا إلى الغواية .، صرخ نيلسون .
-(وميري) ، قال سالم : الآن ستتصل ميري ، ماذا ستقول لها . .
-سيقول لها أصبح ( مطوع ) ، وضحكوا .
أخذت الضحكات والنبزات والسخرية تعلو وتزداد ، وجعلت أدافع عن نفسي وأدعوهم إلى الجنّة ويدعونني إلى النار .
-يا شباب ، يا إخوة ، صرخت فيهم فسكتوا : أنسيتم أنكم من بلاد الإسلام ، ولدتم مسلمين ، أنسيتم أن أجدادكم هم هداة العالم ، ومصابيح الدّجى ، ومنارات الهداية ، أم غرتكم ضحكات نيلسون بينكم ، أسأل الله أن يهديه كما هدى (سوزان) .
-نحن في أمريكا ، جئنا نستمتع بالحياة ، قال سالم .
-عش وحدك مع المحرومين يا . . . قال أحمد .
-لا ، لا . . لن ندعك تذهب معهم ، قال سالم . ستأتيك (ميري) تنتزعك من بين أيديهم ، من المركز .
كنت أصرخ وأدافع ، وكان صوت التلفاز عالياً . . . ثم . . . وجدت نفسي ممدّداً على السرير الأبيض في المستشفى ، وليس حولي إلاّ أطبّاء وممرّضون ، وكل شيء أبيض .
-أين أنا ؟ ما الذي أتى بي إلى هنا ؟
-لا تخف ، هذا الدكتور جونسن من أكبر أطبّاء المستشفى .
* * * * * *
كان خالد وأصحابه قد ابتعدوا مئات الأميال ، ووصلوا إلى مطار (أوكلاهوما) قافلين لدراستهم حينما اتصلوا بالمركز الإسلامي يسألوا عنّى :
-(غريب ) في المستشفى ، قال لهم الذي رفع سمّاعة الهاتف .
-سلامات ؟ خيراً إن شاء الله ؟
-الحمد لله بخير ، لم يأتنا أحد بتفاصيل خبره.
أقلق خالداً الخبر ، فكان هو وأصحابه أول الزائرين . ثم تقاطر عليّ أفواج الأحبّة .
وحينما خرجت من المستشفى كان قد فات شهر من الجامعة ، فسافرت إلى أهلي وأتيت بها ، أجل أتيت بها زوجة ( يمانيّة كالحكمة ) . . وأسكنتها جارة للأخيار ، شموس النهار ، ومصابيح الدجى ، وهداة الدنيا .