الإبداع القصصي الفصيح رُفعت دموع أم عمارة مع دموع الحجيج

مكنون

عفا الله عنه وجميع المؤمنين
طاقم الإدارة
صوت ارتطام شديد أيقظ كل أطفال أم عمارة
خرج الصغار يمسحون النوم عن وجوههم
شاهدوا بابهم المكسور
دخل منه جنود يهود مدججين بالسلاح
- أين عمارة ؟ . . صرخ أحدهم .
لم يهل الأطفال الأمر، فقد تعوّدوا عليه ، لم يكد يخلو بيت من مثل هذا الاقتحام .
كانت أم عمارة ، أمهم ، تتهجّد نافلتها من الليل ، كانت تدعو الله أن يعجّل بتحرير الأقصى من الأرجاس ،الأنجاس ، اليهود ، وتدعو للأبطال المجاهدين أن يحفظهم الله ويثبّت أقدامهم .
- أين عمارة ؟ ، صرخة أخرى
خرج عمارة كأنّه الأسد هيّج في براثنه .
- ماذا تريدون ؟ أنا عمارة .
كان طفلاً يناهز الثانية عشرة ، ممتشق القامة ، فارع الطول ، جميل المحيّا ، لكنّ وجهه كان قطعة غضب .
خالجه شعورٌ ؛ أن دوره قد حان ليذهب مع الأبطال الشرفاء الذين سبقوه .
كم تمنى أن يزورهم أو يعرف دقيق أخبارهم .
خفّّفت أم عمارة من صلاتها لعلّها تودع صغيرها بكلمة ، أو نظرة ، أو عَبرة
لم يمهلوها ، بل ولّوا بصغيرها هاربين ، كاللصوص الجبناء .
-ستعلمون من هو عمارة يا أحفاد القردة ، صرخت نسيبة بأعلى صوتها ؛ لقد أرضعته لبن الجهاد في المهد ، وغذيته كأس الحريّة وهدهدته بثأر الإسلام ، وخلاص المسجد الأقصى ، وثأر أبيه .

* * * * * * *

انفجرت باكية ، حاولت أن تكتم بكاها من صغارها الذين استداروا حولها كالهالة ، لكن دموعها ما استطاعت لها حبسا
حدّثتهم مرّة أنها سمّته عمارة لتكون هي أم عمارة ، إن أمها سمتها نسيبة للسبب نفسه .
- وما هو السبب يا أمي ؟ سألها عمارة .
- كانت هناك صحابيّة جليلة تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم اسمها نسيبة العامريّة ، وفي غزوة أُحُد كان ا لنبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت يمنة ولا يسرة إلاّ رآها تقاتل دونه ، فقال لها سليني يا أم عمارة . فقالت : أسألك مرافقتك في الجنّة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعلها رفيقتي في الجنّة .
قالت : كم يا أبنائي تمنّيت أن أقاتل اليهود كما يقاتلهم الأشاوس الأبطال أمثالكم، وهذه نفس أمنية أمي فيّ .
إنكم يا أشبال الإسلام خير منّا نحن معاشر النساء ، فرميكم بالنباطة والمقلاع أقوى من رمينا ، وجريكم في ساح الوغى أسرع من جرينا .
كانت تشعر أن كلماتها تملؤهم فخراً واعتزازاً ، كانت تحاول أن تنقش بكل كلمة في صدورهم نقشات مجد ، كانت لا تفتأ تقول لهم : " يا أبنائي: حرروا الأقصى مع إخوانكم وانصروا الإسلام " ، تحصّنوا بالإسلام واحفظوا القرآن ، إننا لن نستطيع انتزاع وطننا من أنيابهم وتخليصه من مخالبهم إلاّ بالإسلام وبالقرآن .
أخذت تستعيد ذكريات عمارة لحظة لحظة ، ودفقة دفقة ، وأطفالها ينظرون إليها مشدوهين ، وهي تضحك تارة ، وتبكي تارة ، وتغضب ، يم تتبسم ، وتبسط يدها ، ثم تضمها إلى صدرها ، وتوقفت مع تذكّر مقلاعه ، كم هز به رؤوس الجبناء وأرغم أنوفهم ، كم حاولت الدوريّة أن تلحق به وبأصحابه ، لكن صمدت الإطارات الملتهبة سدّا منيعا . وكم أطلقوا الرصاص المطاط الذي يتفجّر في أجساد الأطفال ، لكن اشرأبّت البيوت في وجوههم حصناً منيعاً .
وفي اليوم التالي كانت تجيء الجرافات لتجرف تلك البيوت . لم يكن للبيوت ذنب سوىأنها شمخت بصدورها قلاعاً في وجه الأشرار ، تحمي الأطفال ، الأطفال الكبار .
وأصغت أم عمارة بأذنيها كأنها تتسمع دوى الأناشيد الحماسية التي كان يطربها بها عمارة :
(
استمرّي
إن بغى الباغي على أنوار فجري
استمري
إن أحالوا الوطن المسلوب أنهار دم حمراء تجري
استمري
إنّه الإسلام عنوان فتوحاتي وأمجادي وتسبيحات نصري ).

* * * * * * *

اشتاقت إليه مع الأيام شوقاً شديداً ، رغم أنها إنما أعدته لمثل هذا الحدث ، حاولت أن تجعل من صدرها صخرة صبر ، لكن عاطفة الأمومة أبت عليها وطغت ، حاولت أن تتشاغل عن تذكره ، فإذا ذكراه في كل ركن ، ومع كل نسمة ، وبين كل فينة وفينة .
كان متنفسها الوحيد في تضرعها لربها ، فأخذت تقوم الليل وتصوم النهار ، وتدعو الله عند فطرها وفي حنايا السحر ، تتضرّع إلى الله أن يرد عليها بطلها . لتطرب حين تشاهده يرمي بمقلاعه الأوغاد ويقود إخوانه الأطفال من زقاق إلى زقاق ليفاجئوا دوريات يهود.
ومرّة أخذتها غفوه وهي ساجدة في صلاة السحر ، فرأت نفسها تطوف حول الكعبة ، تدعو الله محاولة التعلق بأستارها ، والالتزام بين الركن والباب ، سألت المعبرين فقيل لها تحجين إن شاء الله .
لا تريد أن تصرفها الأحلام عن الواقع ، فما الأحلام إلاّ منفسات ، وربما أحاديث نفس ، لكنّها طربت لفكرة الحج ، فأخذت تعد العدّة وتحزم المتاع .

* * * * * * *

وصلت نسيبة إلى الحج ، وكانت منذ انطلاقتها من الخليل تدعو ، كان شغلها الشاغل هو رؤية صغيرها يرمي بالمقلاع مع إخوانه ، كم كان يهزّها المنظر حين تراهم يجرون بين الزقاق دونه ، كم كان يهزها . وكم كانت تتجلّد وتكتم بكاها حين يأتي أحد الأطفال يسألها عن عمارة ، فتهرب عنهم ولا تجيبهم .
أسكنوها بعيداً عن مسجد الكعبة ، فكانت تبقى في الحرم من صلاة الفجر وحتّى صلاة العشاء ، كانت تدعو لعمارة في كل سجدة ، وتدعو لعمارة مع كل نظرة إلى الكعبة ، وتدعو لعمارة بين كل تسبيحة وتهليلة . كم فكّرت أن تلتزم بين الركن والباب ، لكنها كانت ترى الزحام فتستحي .
قالت مرّة في نفسها : كل هؤلاء المتزاحمين على الملتزم لهم حوائج كحاجتي ، اللهم إني أتوسل إليك بأني أرفع إليك حاجتي وشكواي وتضرّعي مع حوائج عبادك هؤلاء وشكواهم ، فاقبلني معهم ولا تردّني خائبة ، ألهي ، إن رددتني فلمن أرفع حاجتي ، يا كاشف الكربات ، يا قاضي الحاجاتا ، يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .

* * * * * * *

وفي عرفة ظلّت نسيبة طوال النهار تدعو وتدعو . وليلة مزدلفة لم تذق طعم النوم ، بل هي التي أبت النوم ، لأن الذكر والدعاء كان لها كالشهد . ما أعجب الذكر في المحن
وحينما عادت ، كانت أول بشارة تتلقاها هي التهنئة بخروج ابنها عمارة ، قيل لها :
-إنه سيصل اليوم أو غداً ، لم يبق عليه سوى إجراءات الخروج .
أما هي فلم تتمالك نفسها من البكاء ، ولم تحملها قدماها من الفرح ، أمسك عماد أخوها بها ، وأخذها إلى السيّارة ، وهي تبكي فرحاً ، وتبكي شكراً لله لاستجابته دعاءها وتضرّعها ، وتبكي شوقاً للقاء ابنها وبطلها عمارة ، وتبكي وهي تتصوّره يرمي الأوغاد بمقلاعه مع إخوانه ويزيح الظلام عن وجه الحياة ، وتبكي . . . .
 
عودة
أعلى