الإبداع القصصي الفصيح حروف تجرني إليكم (1) {جاوه}

مكنون

عفا الله عنه وجميع المؤمنين
طاقم الإدارة
(جاوه)

كان حقلنا جميلاً رائعاً ، يبعد خطوات عن بيتنا ، كان بإمكاني أن أتردد عليه مرات في اليوم الواحد للاطمئنان على الشجرة الوحيدة التي أحببتها من قلبي ( الجاوه ) – لعل اسمها ينم عن موطنها – ورغم كثرة النخيل والرمان في حقلنا كنت لا أرى فيه إلا ( الجاوه ) . كانت تمتد باسقة في آخر الحقل ، عند مدخل الترعة ( الفلج ) ، وكانت دائماً تفرش تحتها بساطاً رائعاً من ورقها العريض إذا تساقط مصفراً ، مشكلة نجمة صفراء على راية حقلنا الخضراء .
حتى إذا نضجت ثمار الجاوه ، شاركني في حبها الرائح والغادي ، تتباين تعابيرهم عن حبهم إيّاها ؛ فبعضهم يقتحم إليها شوقاً ، وآخرون يرمونها بالحصى أو يتناوشونها بالعصا ، أما هي فلا تجيبهم إلاّ بتعبير واحد ؛ تساقط عليهم ثمراً جنيّا .
كان أحد أركان الجاوة يمتد بميلان أقرب إلى الانبطاح ، مشيرة إلى موقع بيتنا ، لعلها ترصد حركات مَن حوله ، كنت أنا أيضا أرصد الحركات التي حولها . كانت هذه الركنة تضم بين جنباتها تجويفاً ربما أخفت العصافير فيه صغارها . ولأن أيادي الكبار لا تصل إليه لضيق الفوّهة ، كانت تحملني عمتي إلى ذلك الشق الصغير وتطلب منى أن أدخل يدي من فوّهته وأتناول صغار العصافير التي فيه ، لتفرحني بها ، وربما مر بعض غلمان الحي ينظرون إلى صنيعنا وابتهاجنا بعطاء الجاوة ، فتطلب مني عمتي أن أهدي إلى كلّ منهم عصفوراً ، أو شيئاً من جني الجاوة .
حتى الرصاص ربما شاركني حب الجاوة فيتساقط حولها في بعض المواسم، وربما يصيبها فلا تزيد إلاّ زخرفة لرايتها ، وتساقطاً لثمرها الجني، وقد سقطت إحدى الرصاصات قرب قدم أختي فروعتها وروعتني أيما ترويع ، آه ، ما أقسى الذكريات المروعة ، كان سبب ذلك الرصاص غالباً تعاتب بين أخوين ، غير أن ركوب أختي حصان الذكرى كان بمرض غير تلك الرصاصات .
استبدل أبي حقلاً بحقل ، ثم بآخر ، ثم غرس بيده حقلاً ثالثاً ، أما أنا فبقيت حزيناً على فراق تلك الراية الخضراء ذات النجمة الصفراء .
سألتُ عمّتي ذات مرة : " لماذا باع أبي حقلنا الجميل القريب ؟ "
قالت : " كيما نأكل " . ونسيت أن أسألها لماذا اجتث منه الجاوة قبل أن يبيعه !!!!
 
عودة
أعلى