الإبداع القصصي الفصيح حروف تجرني إليكم (2) { هل تبكي السماء ؟ }

مكنون

عفا الله عنه وجميع المؤمنين
طاقم الإدارة
هل تبكي السماء ؟

خرج ، متوكّئاً على عكازته المحدودبة مثل ظهره ، مع القلة التي خرجت لصلاة الاستسقاء ، كان عقله يضج بأفكار شتى ، كلها عن زمنه الغابر ، توقف طويلاً عند ذلك اليوم ، يوم غطى السماء غمام كثيف ، واسودّ الأفق ، وأظلم .
كم حدّث عنه سمّاره ، وأساريره تبرق ، وأشاراته تتكلّم . . وعيناه تغرورق . . إنه ينقل سمّاره إلى عصر الأمير . . هكذا يتحدث عنه . .كنا وكان أميرنا. . " وكانت الدنيا كلها فقيرة ، وكانت الحروب . . وكان المحتاجون يقصدون أميرنا من كل حدب وصوب ، فلا يصدرون من عنده إلاّ وقد أوقر جمالهم بالتمر الكثير . .. . . ثم يتنهد ، كأنه يأسف أن طال به العمر حتى يرى زمن سمّاره . . . .
ثم يواصل : كان أميراً مستقيماً صالحاً ، يطعم الجائع ، ويكسو المعدوم ، ويحنو على الأطفال ، ويعول الفقراء ، ويكفل المحتاجين ، ويمسح على رؤوس الأيتام . . . .
ويرمق محدثية بنظرة عتاب قاسية ، كأنه يتحداهم أن يوجد بينهم من هذا شأنه . .
والأمطار تهطل غزيرة . . في موسمها . . لا تتأخر . يوم كانت قلوبنا مجتمعة ، وكلمتنا واحدة . . كنّا جميعا ، نأكل في صحفة واحدة . . . ونتقاسم الرغيف الواحد . .ونضحك من قلوبنا . . فإذا انتهينا من الحصاد ترحــّلنا إلى الربيع ، نعمد إلىالظراب . . . و بطون الأودية المجاورة ، وسفوح الآكام والشعاب المليئة بالخصب الأخضر . . والغدران الصافية العذبة ، . . والغاف النضر . . والسدر الظليل . .
ويمسح مدامعه ، كانّه يقول لهم ليتكم كنتم معنا . . .
البحر ليس منّا ببعيد . . . . و الأيام تمر مرّ السحاب . . . ليس إلاّ السعادة وحدها . . . واجتماع الكلمة وحدها . . .وصفاء القلوب . .واخضرار الربيع . . وعبادة الله وحده . . .
ثم يطأطئ رأسه . . ليخفي مدامعه التي تزداد . .
وكان لأميرنا صفيٌّ منّا ، يدعى (الخزين) ، ألّف الله بين قلبيهما لشبه كان بينهما في الإنفاق ، فإذا جاوز الرببيع وجاء زمن الحصاد ، عدنا جمعاً لقريتنا ، وأصبحت حقول الأمير وحقول الخزين لنا جميعاً ، لقاصينا ودانينا , كلنا ييجني منها ما يكفيه ، ويبقى الكثير .
حتى كانت صبيحة ذلك اليوم ، حين حمل أحد المقربين إلى أميرنا ذلك النبأ العجيب :
-مات الخزين .
كاد قلب الأمير أن ينفلق، لكنه تحامل على قدميه الخائرتين ، وتظاهر بالشفاء ، ومشى يخيّم عليه صمتٌ رهيب . . حتى وصل منزله ، هناك سقط مغشيّا عليه ، وودّعنا . . . . ثم ينشج بصوت لا يستطيع له كتما . . ويتنهد قائلاَ :
في ذلك اليوم غطى السماء غمام كثيف ، واسودّ الأفق ، وأظلم ، لكنها لم تمطر السماء .
كم أوشك أن يقول لسمّاره : " إنه في ذلك اليوم بكت السماء " . .
لكنه هذه المرة ضرب بعكازته على الأرض بقوة وهو تمتم يواصل مسيره لصلاة الاستسقاء : ( نعم بكت عليه السماء ) ‍‍‍‍‍‍.
 
عودة
أعلى